على ضفاف الأنهار الممتدة نحو البحر، تتربع مدينة تشوانتشو الصينية، مدينة لا تتمتع بمواصلات جيدة فحسب، بل تمتاز أيضًا بموقعها الذي يجعلها بمنأى عن الأعاصير إلى حدٍّ كبير.
بُنيت المدينة على طول النهر، فكانت الأرصفة والمحلات والأسواق والمخازن تنتظم على جانبيه، فيما تتناثر في أرجائها البنايات الحكومية ومساكن الموظفين وبيوت المدنيين والتجمعات السكنية للأجانب.
مركز تجاري مزدهر
منذ قرون، عُرفت تشوانتشو كميناء تجاري مزدهر، إذ تطورت فيها صناعة صهر الحديد وصناعة النسيج بكثافة، وانتشرت داخلها ورش الأشغال اليدوية التي يديرها الحرفيون المهرة.
وخارج أسوارها، قامت منطقة تجارية كبيرة تجمع التجار الصينيين والأجانب، مما جعلها نقطة تلاقي للحضارات والسلع والأفكار.
بوابة الشرق على العالم
استقبل ميناء تشوانتشو الجميل مبعوثين وتجارًا من جنوب شرق آسيا وبلاد فارس والدول العربية والهند وسيلان، وحتى من بلدان البحر الأبيض المتوسط.
وقد زارها الرحالة الإيطالي ماركو بولو عام 1291، وكتب عنها قائلاً: "يبلغ طول سواحل مدينة تشوانتشو أكثر من أربعمئة كيلومتر."
كان الميناء، الذي يتألف من أربعة خلجان، واحدًا من أهم الموانئ في الصين القديمة، ومنه انطلقت القوافل البحرية على ما عُرف بـطريق الحرير البحري، أو طريق البخور الذي ربط الشرق بالغرب عبر أمواج المحيط.
مدينة الزيتون
تشير المصادر الصينية إلى أن طرق الملاحة البحرية في تشوانتشو نشأت خلال فترة الأسر الجنوبية الحاكمة في منتصف القرن الخامس الميلادي، وبنهاية القرن التاسع أصبحت المدينة مركزًا تجاريًا نشطًا يمتد تأثيره إلى سواحل الخليج العربي وجنوب شبه الجزيرة العربية.
عرفها العرب باسم مدينة الزيتون، لأن اسمها الأصلي "هواتزيتونغ" يشبه في نطقه كلمة زيتون. أما كلمة "تسيتونغ" نفسها فهي اسم زهرة حمراء كانت رمزًا للمدينة، تمثل الحماسة والجسارة والنشاط والحيوية.
الحضور العربي والإسلامي
للعرب والمسلمين في تشوانتشو تاريخ مجيد وسجل حافل، إذ عاش فيها أسلافهم وتاجروا وصاهروا الصينيين، فصنعوا روابط إنسانية وثقافية لا تزال حاضرة حتى اليوم.
وتضم المدينة العديد من المعالم الإسلامية والنُّصُب التذكارية المنقوشة بالعربية، التي تخلّد صفحات مشرقة من التبادل الحضاري بين الصين والعالم الإسلامي.
من أبرز هذه المعالم مسجد تشينجينغ، أو مسجد الصحابة، الذي بُني عام 1009 ميلادية باستخدام الصخر البركاني والجرانيت. ويُعدّ من أقدم المساجد في الصين، ويتميّز بطراز معماري يجمع بين الجمال العربي والعراقة الصينية.
متحف المواصلات البحرية
على مقربة من المسجد يقع متحف تشوانتشو للمواصلات البحرية، الذي أُنشئ في مطلع القرن الحادي والعشرين ليضم جناحًا خاصًا بالآثار الإسلامية.
يحتوي المتحف على نماذج لمختلف أنواع السفن التي عرفتها الصين، سواء تلك المخصّصة للملاحة النهرية أو الحربية أو البعثات الخارجية، إلى جانب نقوش وكتابات عربية وفارسية ورسوم ذات طابع إسلامي فريد.
تراث عالمي حيّ
يحمل ميناء تشوانتشو ذاكرةً عريقة للملاحة العالمية، ويُعدّ نموذجًا لتراث الثقافة البحرية قبل عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى.
وقد أكدت اليونسكو والمجلس الدولي للآثار والمواقع أن هذا الميناء يتمتع بقيمة استثنائية للبشرية، مما جعله يستحق مكانته ضمن قائمة التراث العالمي.
مدينة التنوع الديني والثقافي
تُعد تشوانتشو اليوم نافذة للحضارة البحرية وملتقى للأديان والثقافات. ففيها تجتمع دور العبادة لمختلف الديانات:
مسجد الصحابة، قصر تيان هو، معبد ماتسو آلهة البحر، معبد كايوان البوذي، معبد بانفو الهندوسي، معبد النصطورية، والكنيسة المسيحية.
لذلك لا عجب أن يُطلق عليها لقب المتحف الطبيعي لأديان العالم.
العرب في تشوانتشو اليوم
تشير الإحصائيات إلى أن نحو خمسين ألفًا من نسل العرب والفرس يعيشون اليوم في تشوانتشو، وتحمل عائلاتهم أسماء مثل دينغ وبو وقو.
ولا يزال هؤلاء السكان يلعبون دورًا مهمًا في تعزيز العلاقات التجارية والثقافية ضمن إطار طريق الحرير البحري.
قيمة خالدة
في عام 2018، قدّمت الصين طلبًا لإدراج 16 أثرًا ثقافيًا من تشوانتشو ضمن قائمة التراث العالمي، من بينها أثران إسلاميان. وتشمل هذه المواقع مقابر ونقوشًا عربية وإسلامية، أبرزها مقبرة لينكشان للمسلمين والنقوش الصخرية التي تحمل أدعية لهبوب الرياح عند مغادرة الأساطيل التجارية وعودتها.
ورغم أن بعض المساجد القديمة اندثر مع مرور الزمن، فإن روح المدينة لا تزال شاهدة على ذلك التاريخ المجيد...
تاريخ كُتب على أمواج البحر وعلى ظهور الخيل، بحروفٍ من حضارةٍ وإنسانيةٍ وسفرٍ لا ينتهي.